قصة قصيرة ...
قصة قصيرة ...
الصفحة الرئيسية >>> ثقافة
اخر تحديث : 28 / 8 / 2016
قصة قصيرة
غرفة الجيفة
القاص والروائي التونسي
نبيل قديش
دفع البوابة البلورية بدفتيها وبإطارها من معدن الألمونيوم الفضيّ. دلف إلى الداخل الرخاميّ فلفحته على الفور برودة الهواء المثلّج الذي نفثته أجهزة التكييف المركزي المنتشرة في السقف. شملته انتعاشة جعلته يتحمسّ لفكرة تعديل المكيّف في درجة الصفر بمجرّد أن يستلم غرفته. كانت الحرارة المستعرة في الخارج قد قاربت الأربعين درجة، حتى أن الإسفلت قد أصبح لزجا تحت قدميه، بل وأوشك على الانصهار على الجادّة التي قطعها من محطة القطارات إلى النزل مشياً على الأقدام.
تقدّم ناحية المنضدة التي يقف وراءها عون( موظف) الاستقبال. شاب متوسط القامة بشعر مفروق و"بابييون" أسود مائل قليلا. كاد ينسى أن يسحب زجاجة العطر من جيب صغير خارجيّ للحقيبة، ويبخّخ نفسه بالعطر درءا لأي شبهة. كان له أنف ناشز يترصّد الروائح المحيطة به. فقد اشتمّ على الفور رائحة من نتونة منقوعة في العرق قد بدأت تخرج منه. بل وكان هناك منذ الصباح أعداد من اليرقات الصغيرة قد بدأت تزحف من أذنيه، وأنفه ومن حدقتيه، لكنّه يسيطر عليها إلى حد الآن ما دامت لم تصبح ديدانا بعد.
وقف أمام عون الاستقبال وقد شعر أن بعض الرؤوس المنتشرة هنا وهناك، لأصحابها الجالسين فوق الديفونات المزرّرة في قاعة الاستقبال الكبيرة قد اشرأبت نحوه. تقدّم منه، تسبقه رائحة عطره الهجينة وقال:
• أريد غرفة لشخصين من فضلك .
بدأ الشاب ذو السحنة الآسيوية في تقليب دفتر الحجوزات. كان منهمكا. ولحسن حظه لم يلحظ اليرقة الصغيرة التي راحت تزحف على مهلها فوق المنضدة الخشبية، متجهة نحوه. سارع بإزاحتها ورمى بها بعيدا. تدحرجت فوق رخام الأرضية ثم راحت تزحف نحو وجهة أخرى. رفع الشاب رأسه أخيرا راسما ابتسامة عريضة على فمه الواسع. ثم وضع فوق المنضدة حاملة مفاتيح تدلّى فيها مفتاح صدئ بأسنان مخيفة. لاحظ أنه استغرق وقتا أكثر من اللاّزم لإيجاد غرفة شاغرة في نزل لم يكن مكتظا. وكان يبدو محجما ومتردّدا بين خيارين أو أكثر. أمل أن يسلّمه الغرفة المناسبة دون أن يكون مجبرا على تبديد مزيد من الوقت. لكنه فعل أخيرا.
• غرفة رقم 11
ابتسم له. بقي يحدّق فيه بعينين ثابتتين حتى تدارك أمره مضيفا:
• الطابق الثالث غرفة رقم 11.
لكنه قبل أن يمضي، استوقفه الشاب قائلا:
عذرا سيدي، – ثم وهو يضع فوق المنضدة حاملة أخرى- هذه الغرفة ملائمة أكثر ولها شرفة تفتح على البحر.
قال بثقة وبهدوء خذل الشاب:
• لا بأس في الغرفة رقم11
ولأوّل مرّة منذ غادر مرقده في الصباح الباكر، يشعر بالإرباك وبشخص ما أوشك حدسه أن يقف في طريقه. لكن الشاب سرعان ما تابع يقول:
• استمارة الوافدين من فضلك، أرجو أن تعمّرها ( تملأها) من أجلي.
ملأ الاستمارة في فتور شديد. ذيّلها بتوقيعه الكبير الذي استهلك ربع مساحة الورق وكتب التاريخ: السبت 15 أوت من كلّ عام. دفعها نحو الشابّ الذي بدا عليه الوجوم حين قرأ ذلك. بادره بسؤال أراد به تلهية الشاب عن أفكاره. لم يره السنة الفارطة حين قدم في اليوم نفسه، وكان متأكدا أنه جديد في الخدمة:
• هل أنت جديد؟
قال الشاب الآسيويّ بعنفوان:
• أجل سيدي. اليوم تمضي سنة على استلامي المنصب.
سحب حقيبته خلفه، وهو يفكّر في الشابّ المسكين الذي سيصبح عاطلا ابتداء من الغد. كان قاب قوسين من النجاة. كان سيطلب الغرفة رقم 11 بعينها لو لم يعطها له الشابّ تلقائيا.
صعد بالحقيبة المصعد الآلي متجاهلا عون استقبال آخر أراد أن يحملها عنه، طامعا في عمولة. لكنّ الأموات لا يمنحون عمولات لأيّ كان. أُغلق باب المصعد على وجهه المخذول المفعم بالبلاهة.
ارتمى على الفراش الوثير الذي بدا مناسبا جدا، وأكثر بكثير من السنة الفارطة. يبدو أنهم استبدلوا أثاث الغرف، وأعادوا تجهيز النزل. وضع قفاه تحت أشاجع يديه المشبكتين، فارجا ساقيه فوق الفراش من غير أن ينزع حذاءه، ولا سترته ونظر ناحية السقف.
وسرعان ما مالت الشمس من الجهة الأخرى جاعلة من ستائر الغرفة البيضاء صفحة شفافة استقرّت وراءها بركة من نور فضيّ. عند ذلك خفق قلبه إيذانا أن الوقت قد حان. رآها تدخل من خلاله ثم تتقدّم وتجلس على حافة السرير. دعاها إليه فقفزت مثل طفلة غرّة بجانبه، ثم احتواها بذراعيه قائلا:
لقد تأخرت كثيرا..
نظرت إليه في شغف. كان يبدو أنّها استسلمت أكثر منه للتغييرات الجسدية التي يفرضها الموت. فقد بدأت مساحة صغيرة من جلد وجنتها في التهدّل، وسقطت خصلات من شعرها الأسود على جبينها. شابَ شغفه الذي ظهر للتوّ وهو يراها موجة من كدر. فقال لها:
أنت تتغيرين بسرعة.
أنت أيضا عزيزي. قالت ذلك بعد أن رصدت دودة صغيرة كدودة القزّ تزحف من تحت قميصه القصير بدون أكمام.
أرادت أن تبدأ سجالا حول الموت وما فعله وماسيفعله بجسديهما خلال الساعات القادمة، مستسلمة لليأس حين قالت:
في اعتقادك كم لدينا من الوقت حتى يأتي علينا الدود؟
أظهر امتعاضه من سؤالها وقال بصوت أراده أن يكون قويا وواثقا:
نفس إجازة السنة الفارطة. لا تقلقي لدينا ما يكفي من الوقت.
زادت التصاقه بها. أحسّ بحرارة جسدها تنفذ إليه. كانت رسائل على أنها استجابت بكلّ جوارحها لجرعة الأمل الذي ناولها إياها. دست رأسها في صدره وراحت بأناملها تتعقب رؤوس الشعر الطويل الذي يكسوه. أحس بدغدغة وقال ضاحكا:
كفى، كفى. لا أحتمل ذلك...
هل انقطعت عن الاستمتاع بذلك؟ قالت له في غنج.
مارسا الحب بنهم وبعطش كبيرين. وكأنهما كان قد افترقا منذ عقود. ثم ناما متعبين في تلك الوضعية، هي داسّة رأسه في صدره مثل طفلة وهو ينظر إلى السقف. انسحبت آخر خيوط الشمس عبر ستائر الغرفة وهبطت ظلال المساء، وغرق النزل في صمت الغروب المستعد لليل. كان ينبغي أن ينهضا مع الثامنة ليتناولا العشاء في النزل، ثم يذهبا ليحضرا الحفل الذي تجشما من أجله عناء الرحلة الطويلة. لكنهما استغرقا في النوم. عند العاشرة مساء يئس مدير الاستقبال من نزولهما للعشاء فطلب بالهاتف الغرفة رقم11. لكنهما لم يجيبا على الهاتف ففكر دون أدنى شك أنهما ما زالا يستغرقان في النوم.
بعث بالشاب الآسيويّ ليتفقدهما. أخذ ينقر على باب الغرفة دون هوادة حتى شعر بالسأم. ثم اضطر إلى استعمال المفتاح الثاني الاحتياطي، لكنه قبل ذلك استرق النظر من خلال القفل. ولاحظ أنهما يبدوان نائمين في وضعية حميميّة كأيّ زوجين قدما من سفر بعيد. فتح الباب بتؤدة وتقدم نحوهما ثم صرخ صرخة مدوية قبل أن يقع مغشيا عليه.
على طول ممر الطابق الثالث تجمهر نزلاء الفندق. تناهبوا المسافات كلّ من مكانه حيث وصلته الصرخة. كانوا يرمقون الجثتين المتعفنتين اللّتين كان يرعاهما الدود بنهم. وكان كل واحد يستسلم إلى حدسه محاولا حزر المُدة التي كانا قد قضياها ميتين في غرفتهما ولم يفطن لهما أحد. ردّد بعضهم "أسبوعان على أقل تقدير" وآخرون تمسكوا بفرضية الشهر وأكثر. ولكن عامل النزل الآسيوي الذي امتلك لوحده الحقيقة كان يشير بعلامة نفي وحيدة حزينة وهو يطوح برأسه. ثم صاح فيهم أنّ الرجل جاء وحيدا وشغل الغرفة رقم 11 عند الواحدة ظهرا من يوم أمس فقط. لم يسمعه أحد بل كانت هناك امرأة بدينة طلبت منه أن يخرس. أمسك رأسه بين يديه ثم انسحب نازلا نحو الطابق الأسفل ليتثبت من دليل الغرفة رقم11. كان ينزل جريا في السلالم دون أن ينتظر المصعد. خلف المنضدة تأمل استمارة الدخول التي عمّرها الجيفة وحيدا وبخط يديه. وحدق في التاريخ مليا وبعبارة "من كلّ سنة". وعند ذلك فهم كلّ شيء وفكّ لغز ابتسامة الجيفة. فك البابيون الأسود بحركة خاطفة. رماه على الأرض وخرج من الباب جريا.
من الغد كان شاب آسيوي جديد يقف خلف المنضدة وهو يعدّل البابيون الأسود، ويتأمّل دفتر الحجوزات بابتسامة حمقاء بائسة..
اخر تحديث : 28 / 8 / 2016
قصة قصيرة
غرفة الجيفة
القاص والروائي التونسي
نبيل قديش
دفع البوابة البلورية بدفتيها وبإطارها من معدن الألمونيوم الفضيّ. دلف إلى الداخل الرخاميّ فلفحته على الفور برودة الهواء المثلّج الذي نفثته أجهزة التكييف المركزي المنتشرة في السقف. شملته انتعاشة جعلته يتحمسّ لفكرة تعديل المكيّف في درجة الصفر بمجرّد أن يستلم غرفته. كانت الحرارة المستعرة في الخارج قد قاربت الأربعين درجة، حتى أن الإسفلت قد أصبح لزجا تحت قدميه، بل وأوشك على الانصهار على الجادّة التي قطعها من محطة القطارات إلى النزل مشياً على الأقدام.
تقدّم ناحية المنضدة التي يقف وراءها عون( موظف) الاستقبال. شاب متوسط القامة بشعر مفروق و"بابييون" أسود مائل قليلا. كاد ينسى أن يسحب زجاجة العطر من جيب صغير خارجيّ للحقيبة، ويبخّخ نفسه بالعطر درءا لأي شبهة. كان له أنف ناشز يترصّد الروائح المحيطة به. فقد اشتمّ على الفور رائحة من نتونة منقوعة في العرق قد بدأت تخرج منه. بل وكان هناك منذ الصباح أعداد من اليرقات الصغيرة قد بدأت تزحف من أذنيه، وأنفه ومن حدقتيه، لكنّه يسيطر عليها إلى حد الآن ما دامت لم تصبح ديدانا بعد.
وقف أمام عون الاستقبال وقد شعر أن بعض الرؤوس المنتشرة هنا وهناك، لأصحابها الجالسين فوق الديفونات المزرّرة في قاعة الاستقبال الكبيرة قد اشرأبت نحوه. تقدّم منه، تسبقه رائحة عطره الهجينة وقال:
• أريد غرفة لشخصين من فضلك .
بدأ الشاب ذو السحنة الآسيوية في تقليب دفتر الحجوزات. كان منهمكا. ولحسن حظه لم يلحظ اليرقة الصغيرة التي راحت تزحف على مهلها فوق المنضدة الخشبية، متجهة نحوه. سارع بإزاحتها ورمى بها بعيدا. تدحرجت فوق رخام الأرضية ثم راحت تزحف نحو وجهة أخرى. رفع الشاب رأسه أخيرا راسما ابتسامة عريضة على فمه الواسع. ثم وضع فوق المنضدة حاملة مفاتيح تدلّى فيها مفتاح صدئ بأسنان مخيفة. لاحظ أنه استغرق وقتا أكثر من اللاّزم لإيجاد غرفة شاغرة في نزل لم يكن مكتظا. وكان يبدو محجما ومتردّدا بين خيارين أو أكثر. أمل أن يسلّمه الغرفة المناسبة دون أن يكون مجبرا على تبديد مزيد من الوقت. لكنه فعل أخيرا.
• غرفة رقم 11
ابتسم له. بقي يحدّق فيه بعينين ثابتتين حتى تدارك أمره مضيفا:
• الطابق الثالث غرفة رقم 11.
لكنه قبل أن يمضي، استوقفه الشاب قائلا:
عذرا سيدي، – ثم وهو يضع فوق المنضدة حاملة أخرى- هذه الغرفة ملائمة أكثر ولها شرفة تفتح على البحر.
قال بثقة وبهدوء خذل الشاب:
• لا بأس في الغرفة رقم11
ولأوّل مرّة منذ غادر مرقده في الصباح الباكر، يشعر بالإرباك وبشخص ما أوشك حدسه أن يقف في طريقه. لكن الشاب سرعان ما تابع يقول:
• استمارة الوافدين من فضلك، أرجو أن تعمّرها ( تملأها) من أجلي.
ملأ الاستمارة في فتور شديد. ذيّلها بتوقيعه الكبير الذي استهلك ربع مساحة الورق وكتب التاريخ: السبت 15 أوت من كلّ عام. دفعها نحو الشابّ الذي بدا عليه الوجوم حين قرأ ذلك. بادره بسؤال أراد به تلهية الشاب عن أفكاره. لم يره السنة الفارطة حين قدم في اليوم نفسه، وكان متأكدا أنه جديد في الخدمة:
• هل أنت جديد؟
قال الشاب الآسيويّ بعنفوان:
• أجل سيدي. اليوم تمضي سنة على استلامي المنصب.
سحب حقيبته خلفه، وهو يفكّر في الشابّ المسكين الذي سيصبح عاطلا ابتداء من الغد. كان قاب قوسين من النجاة. كان سيطلب الغرفة رقم 11 بعينها لو لم يعطها له الشابّ تلقائيا.
صعد بالحقيبة المصعد الآلي متجاهلا عون استقبال آخر أراد أن يحملها عنه، طامعا في عمولة. لكنّ الأموات لا يمنحون عمولات لأيّ كان. أُغلق باب المصعد على وجهه المخذول المفعم بالبلاهة.
ارتمى على الفراش الوثير الذي بدا مناسبا جدا، وأكثر بكثير من السنة الفارطة. يبدو أنهم استبدلوا أثاث الغرف، وأعادوا تجهيز النزل. وضع قفاه تحت أشاجع يديه المشبكتين، فارجا ساقيه فوق الفراش من غير أن ينزع حذاءه، ولا سترته ونظر ناحية السقف.
وسرعان ما مالت الشمس من الجهة الأخرى جاعلة من ستائر الغرفة البيضاء صفحة شفافة استقرّت وراءها بركة من نور فضيّ. عند ذلك خفق قلبه إيذانا أن الوقت قد حان. رآها تدخل من خلاله ثم تتقدّم وتجلس على حافة السرير. دعاها إليه فقفزت مثل طفلة غرّة بجانبه، ثم احتواها بذراعيه قائلا:
لقد تأخرت كثيرا..
نظرت إليه في شغف. كان يبدو أنّها استسلمت أكثر منه للتغييرات الجسدية التي يفرضها الموت. فقد بدأت مساحة صغيرة من جلد وجنتها في التهدّل، وسقطت خصلات من شعرها الأسود على جبينها. شابَ شغفه الذي ظهر للتوّ وهو يراها موجة من كدر. فقال لها:
أنت تتغيرين بسرعة.
أنت أيضا عزيزي. قالت ذلك بعد أن رصدت دودة صغيرة كدودة القزّ تزحف من تحت قميصه القصير بدون أكمام.
أرادت أن تبدأ سجالا حول الموت وما فعله وماسيفعله بجسديهما خلال الساعات القادمة، مستسلمة لليأس حين قالت:
في اعتقادك كم لدينا من الوقت حتى يأتي علينا الدود؟
أظهر امتعاضه من سؤالها وقال بصوت أراده أن يكون قويا وواثقا:
نفس إجازة السنة الفارطة. لا تقلقي لدينا ما يكفي من الوقت.
زادت التصاقه بها. أحسّ بحرارة جسدها تنفذ إليه. كانت رسائل على أنها استجابت بكلّ جوارحها لجرعة الأمل الذي ناولها إياها. دست رأسها في صدره وراحت بأناملها تتعقب رؤوس الشعر الطويل الذي يكسوه. أحس بدغدغة وقال ضاحكا:
كفى، كفى. لا أحتمل ذلك...
هل انقطعت عن الاستمتاع بذلك؟ قالت له في غنج.
مارسا الحب بنهم وبعطش كبيرين. وكأنهما كان قد افترقا منذ عقود. ثم ناما متعبين في تلك الوضعية، هي داسّة رأسه في صدره مثل طفلة وهو ينظر إلى السقف. انسحبت آخر خيوط الشمس عبر ستائر الغرفة وهبطت ظلال المساء، وغرق النزل في صمت الغروب المستعد لليل. كان ينبغي أن ينهضا مع الثامنة ليتناولا العشاء في النزل، ثم يذهبا ليحضرا الحفل الذي تجشما من أجله عناء الرحلة الطويلة. لكنهما استغرقا في النوم. عند العاشرة مساء يئس مدير الاستقبال من نزولهما للعشاء فطلب بالهاتف الغرفة رقم11. لكنهما لم يجيبا على الهاتف ففكر دون أدنى شك أنهما ما زالا يستغرقان في النوم.
بعث بالشاب الآسيويّ ليتفقدهما. أخذ ينقر على باب الغرفة دون هوادة حتى شعر بالسأم. ثم اضطر إلى استعمال المفتاح الثاني الاحتياطي، لكنه قبل ذلك استرق النظر من خلال القفل. ولاحظ أنهما يبدوان نائمين في وضعية حميميّة كأيّ زوجين قدما من سفر بعيد. فتح الباب بتؤدة وتقدم نحوهما ثم صرخ صرخة مدوية قبل أن يقع مغشيا عليه.
على طول ممر الطابق الثالث تجمهر نزلاء الفندق. تناهبوا المسافات كلّ من مكانه حيث وصلته الصرخة. كانوا يرمقون الجثتين المتعفنتين اللّتين كان يرعاهما الدود بنهم. وكان كل واحد يستسلم إلى حدسه محاولا حزر المُدة التي كانا قد قضياها ميتين في غرفتهما ولم يفطن لهما أحد. ردّد بعضهم "أسبوعان على أقل تقدير" وآخرون تمسكوا بفرضية الشهر وأكثر. ولكن عامل النزل الآسيوي الذي امتلك لوحده الحقيقة كان يشير بعلامة نفي وحيدة حزينة وهو يطوح برأسه. ثم صاح فيهم أنّ الرجل جاء وحيدا وشغل الغرفة رقم 11 عند الواحدة ظهرا من يوم أمس فقط. لم يسمعه أحد بل كانت هناك امرأة بدينة طلبت منه أن يخرس. أمسك رأسه بين يديه ثم انسحب نازلا نحو الطابق الأسفل ليتثبت من دليل الغرفة رقم11. كان ينزل جريا في السلالم دون أن ينتظر المصعد. خلف المنضدة تأمل استمارة الدخول التي عمّرها الجيفة وحيدا وبخط يديه. وحدق في التاريخ مليا وبعبارة "من كلّ سنة". وعند ذلك فهم كلّ شيء وفكّ لغز ابتسامة الجيفة. فك البابيون الأسود بحركة خاطفة. رماه على الأرض وخرج من الباب جريا.
من الغد كان شاب آسيوي جديد يقف خلف المنضدة وهو يعدّل البابيون الأسود، ويتأمّل دفتر الحجوزات بابتسامة حمقاء بائسة..
مواضيع مماثلة
» قصة قصيرة للقاصة ............. منى الصراف
» إرادة ...... ...... قصة قصيرة ايمان الشمري
» حلم .... قصة قصيرة للشاعر والقاص علي السلطاني
» إرادة ...... ...... قصة قصيرة ايمان الشمري
» حلم .... قصة قصيرة للشاعر والقاص علي السلطاني
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد يونيو 25, 2017 2:25 pm من طرف Admin
» المايسترو عبد الرزاق العزاوي ...... في ضيافة البيت الثقافي البابلي
الأربعاء مارس 29, 2017 4:56 am من طرف Admin
» امي فيض الحنان....................... احمد جابر محمد
الأربعاء مارس 29, 2017 3:16 am من طرف Admin
» سألتني ذات مساءٍ... أريدُ ورداً و قصيدةً... د . مثنى الأنصاري
الثلاثاء مارس 28, 2017 7:39 am من طرف Admin
» صلة الرحم والتواصل الاجتماعي على مستوى الأسرة الواحد ... ـد.صالح العطوان الحيالي
الإثنين مارس 27, 2017 12:38 am من طرف Admin
» صلة الرحم والتواصل الاجتماعي على مستوى الأسرة الواحد ... ـد.صالح العطوان الحيالي
الإثنين مارس 27, 2017 12:37 am من طرف Admin
» أنا ابنة مدينة يسامح فيها العجينُ رغيفَ الخبز والخباز والنار... شعر : ريما محفوظ / سوريا
الإثنين مارس 27, 2017 12:05 am من طرف Admin
» الشاعران السوريان ... بديع صنقور ونجاح أبراهيم في ضيافة شعبة المبدعين العرب والبيت الثقافي البابلي
الأحد مارس 26, 2017 6:09 pm من طرف Admin
» مبارك .... الدكتوراه
الإثنين مارس 20, 2017 5:23 am من طرف Admin